سياسة

الملكية بين الأمس واليوم: من السلطان عبد الحميد إلى محمد السادس، حين تتجسد الدولة في رمزها

أحدث الأخبار
مؤشرات الأسواق العالمية

في تاريخ الأمم، لحظات فارقة يتقاطع فيها السياسي بالتاريخي، وتنكشف فيها معادن الدول ورسوخ أنظمتها. عند هذه المنعطفات، لا يكون الحاكم مجرد قائد، بل يصبح رمزًا تتجسد فيه الدولة، ويُختبر عبره صمودها أو انهيارها. هذا ما ينطبق بحقٍّ على السلطان عبد الحميد الثاني، الذي لم يكن رجلاً من رجالات الدولة العثمانية فحسب، بل سلطانًا استثنائيًا حمل عبء إمبراطورية مترامية الأطراف، حكمت الشرق والغرب، ووجد نفسه في مواجهة تحولات عالمية عاصفة، ومؤامرات داخلية مموّهة بشعارات الإصلاح والتحديث.

ففي أواخر القرن التاسع عشر، لم يكن خطر الانهيار الداهم للدولة العثمانية نابعًا من السلاح أو الغزو المباشر، بل من الداخل، عبر اختراقات ناعمة قادتها جمعية “الاتحاد والترقي”، التي تبنّت خطابًا جذابًا عن الحرية والدستور، بينما كانت في عمقها أداة أجنبية تسعى لتفكيك السلطة المركزية، وإضعاف الدولة تمهيدًا لتقسيمها. أدرك السلطان عبد الحميد باكرًا خطورة هذا المسار، فرفض التنازل عن فلسطين للصهاينة، وواجه المؤامرات بصلابة، مؤمنًا أن تفكك السلطة بداية سقوط الأمة. لكن حين تآمرت ضده النخب المدفوعة من الخارج، وسُلبت منه مقاليد الحكم تحت غطاء دستوري، لم تمضِ سنوات حتى سقطت الإمبراطورية برمتها.

هذا النموذج التاريخي ليس ببعيد عمّا يعيشه المغرب اليوم، إذ تقف المملكة أمام تحديات تلبس لبوسًا مشابهًا: شعارات الحرية والعدالة والحقوق، تُسخَّر أحيانًا لتقويض الدولة عبر ضرب مؤسساتها. لم يعد خافيًا أن الأطراف المعادية للمغرب، وعلى رأسها النظام الجزائري وبعض الشبكات الإعلامية المرتبطة به، تنتهج أسلوبًا ممنهجًا يقوم على استهداف المؤسسات الحيوية، من قضاء وأمن وملكية، سعيًا لخلق حالة من الفوضى المؤسسية، تمهيدًا لزعزعة النظام، كما حدث في تجارب إقليمية عديدة. فهؤلاء لا يضايقهم شيء كما يضايقهم استقرار المغرب وتماسكه، لأنه يفضح فشلهم، ويكشف عجز أنظمتهم. ولذلك يسعون بكل الوسائل إلى خلق بؤر اصطناعية للتوتر، وعلى رأسها ملف الصحراء المغربية، حيث يدعمون “جمهورية وهمية” لا وجود لها إلا على الورق، ويضخّون المال والسلاح والدعاية في سبيل تفتيت وحدة بلد ظل عصيًا على التقسيم والتبعية.

إن تدمير ثقة المواطن في مؤسسات دولته هو المدخل الأساس لإشعال الثورات، وسلب الشعوب القدرة على التمييز بين الإصلاح والتخريب، بين الحرية والفوضى، وبين النقد والبغضاء. لكن المغرب، بخلاف دول عديدة انهارت تحت وطأة هذه الحروب الهجينة، يمتلك مناعة مستندة إلى تاريخه العريق ومؤسساته العميقة الجذور، وفي قلبها النظام الملكي الذي لم يكن يومًا مجرد شكل دستوري، بل الضامن لوحدة الدولة واستمرارها. فمنذ فجر الاستقلال، كانت الملكية هي الحاضنة الكبرى للهوية المغربية، والركيزة التي التف حولها الشعب في مقاومته للاستعمار الفرنسي والإسباني. وفي زمن الأزمات، ظل العرش رمزًا للتوازن والاعتدال، وضامنًا للاستمرارية والتماسك الوطني.

ومع تولي الملك محمد السادس العرش، انطلقت نهضة متكاملة طالت شرايين الدولة، حيث شهد المغرب تحولات عميقة طالت البنية التحتية، والاقتصاد، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان. فقد بُني ميناء طنجة المتوسط، وأُطلق مشروع البراق كأول قطار فائق السرعة في إفريقيا، وتم اعتماد سياسة وطنية للطاقات المتجددة، وتوسيع الحماية الاجتماعية، وتفعيل العدالة المجالية، وتعزيز جاذبية المغرب كوجهة استثمارية عالمية. والأهم من ذلك، أنّ الدولة لم تنكفئ على ذاتها، بل واجهت التحديات برؤية استشرافية، واعتمدت في نموذجها التنموي الجديد على مقاربة شاملة تُشرك المواطن في بناء المستقبل.

وإذ يحاول البعض اليوم اختراق هذا البناء المتماسك، فإن ما يُستهدف فعليًا ليس شخص الملك، بل رمز الدولة الجامعة، ومؤسساتها التي تحمي الأمن والسيادة والتنمية. استهداف الملكية ليس سوى رأس جبل الجليد في مشروع أوسع يهدف إلى نزع الهيبة عن المؤسسات، وإرباك علاقة الدولة بمواطنيها، وفتح المجال أمام فوضى مؤسساتية تسهِّل التدخل الخارجي، وتعيد سيناريوهات التقسيم والهيمنة. وقد بات واضحًا أن بعض الجهات الخارجية ترى في وحدة المغرب خطرًا استراتيجيًا، وتسعى بكل ما أوتيت من دعاية وتحريض إلى التشويش على هذه الوحدة، سواء عبر دعم “جمهورية خيالية” في الجنوب، أو عبر تسويق خطابات انفصالية لا تنبع من الواقع، بل من خيال سياسي مدفوع الأجر.

لكن الوعي الجمعي المغربي، المتجذر في التاريخ، يدرك أن معركة اليوم ليست معركة أفكار عابرة، بل معركة وجود وسيادة. كما يدرك أن حماية المؤسسات، وعلى رأسها الملكية، ليست ترفًا سياسيا، بل واجب وطني، لأن أي تفكك في هذه البنية سيقود، لا محالة، إلى مصير شبيه بما عرفته الدولة العثمانية بعد إسقاط رمزها الأخير.

لقد علّمنا التاريخ أن الأنظمة حين تسقط، لا تسقط وحدها، بل تنهار الدولة بأكملها. لذا، فإن التماهي بين الملكية والدولة في المغرب ليس وهما ولا دعاية، بل حقيقة تاريخية وسياسية، أثبتت نجاعتها في أصعب اللحظات، من الاحتلال إلى الربيع العربي. واليوم، في ظل صراع جديد بأدوات جديدة، يظل المغرب صامدًا، لأن الملكية فيه ليست فقط رمزًا، بل حصنًا متينًا تُبنى عليه كل المؤسسات.

جواد مالك

إعلامى مغربى حاصل على الاجازة العليا فى الشريعة من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. عضو الاتحاد الدولى للصحافة العربية وحقوق الانسان بكندا . متميز في مجال الإعلام والإخبار، حيث يعمل على جمع وتحليل وتقديم الأخبار والمعلومات بشكل موضوعي وموثوق. يمتلك مهارات عالية في البحث والتحقيق، ويسعى دائمًا لتغطية الأحداث المحلية والدولية بما يتناسب مع اهتمامات الجمهور. يساهم في تشكيل الرأي العام من خلال تقاريره وتحقيقاته التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المغرب. كما يتعامل مع التحديات اليومية التي قد تشمل الضغوط العامة، مما يتطلب منه الحفاظ على نزاهته واستقلاليته في العمل الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا